Azzaman | الزمان
حاوره عمر عبد الغفور
لطالما كان الفن التشكيلي في العراق والوطن العربي من الفنون المغبونة نتيجة عزوف المواطن العربي عن متابعة المعارض الفنية ولما كان الفن التشكيلي من أهم الفنون التي تحفظ لأي امة تراثها وحضارتها فهو اللغة التي تنتقل بين الناس بدون لسان او كتابة فهو لغة العين التي تقرأ وتتابع الحقيقة بدون تزييف او مراوغة وهو الضيف الذي نحب أن يبقى في بيوتنا وعلى جدران منازلنا حتى يكون قريب منا ليروي لنا قصة أراد رسامها ان يرويها لنا ولغيرنا حتى تبقى ألوانه وأفكاره شاهدة على عصره من هنا كان لقاؤنا مع الفنان التشكيلي والشاعر والمصور حكم ناطق الكاتب ليتحدث إلى الزمان عن تجربته الفنية.
كان مصطلح المعاصرة والحداثة من المصطلحات التي يستخدمها الفنانون الشباب للتعبير عن أعمالهم الفنية فما هو رأيك بالموضوع؟
إنّ اغلب الصياغات المحسوسة التي مرّت أمام العين وترجمت على شكل مضامين شكلية ومدلولات معنوية في العقل الباطن وأصبحت مخزونة ً في اللاوعي فضلاً عن المدركات العقلانية التي تعاملتْ مع مفرداتِ الذائقةِ السائدةِ وفق معطياتِ القيم الجّماليةِ التي مَنحَها الفنُّ المُعاصر شخصية متفردة والتي ابتعَدت مُغتربةً عن الخطاب الواقعي لتعكس اشراقاتِ واعية في كشفِ متراكماتِ الزّمن في الأبعاد الاجتماعية والتاريخية فكانت أولى الخطوات في مجال الإبداع المحسوس، هو نتاج تمرير بلاغي لحركةِ الافكارِ وصيرورتِها داخل الذات التي لم تتوقف عن التساؤل لخلق إجابات واضحة والإفصاح عن الغموضٍ المتأتي من استحضار المضامين العقلية وارتباطها بمخزون العقل الباطني وإخراجها بالشكل الذي عليها ان تخرج به لإيصاله الى المتلقي بصورة أخرى وبشكل بعيد عن الواقعية للوصولِ الى تظاهرة فريدة في إعادة خلق الأشياء على السّطح التصويري في اللوحة. إنّ مُجملَ أعمالي الفنية تنضوي تحت مسمى الحداثة في الطرح بمعنى صياغة الوقائع والأزمنة برؤية مختلفة عن واقعها بالاستعانة بمفردات محلية عراقية وموصلية وهذا يأتي نتيجة المعايشة الواقعية للبيئة الاثارية التي تربينا عليها على مر العصور فتركت في دواخلنا ذاك الإرث الموغل بالقدم من أبائنا وأجدادنا الأوائل الذين تركوا فينا الشاعرية المفرطة والإحساس العالي عن طريق اللاشعور الجمعي الذي نادى به يونك لنعبر بشكل او بأخر عن صيرورة الإنسان العراقي الأشوري والسومري والأكدى واخراجها بمظهر معاصر وثوب حديث يتناغم والعصر المعاش ليكون الخطاب متماشيا مع حداثوية النص التشكيلي المُعاصر الذي يعيد انتاجَ العلاقة ما بين العمل الفني والمتلقي بالشكل الذي يُعمّقُ الشراكة ما بين الاثنين في انتاج المعنى الفني فأنا ارسم نصف الدائرة وانت تكملها، ماحياً بذلك الظاهرة المُهيمنةَ التي تحتكرُ الرؤيا في مخيلة الفنان وليبقي المعنى غَائباً ومُغيباً قصدياً في الأعمال الفنية، الذي يستلزِمُ استدعائَه الى قراءاتٌ متعددةٌ للجمهور تستمدُّ إشاراتها من وحي اللحظةِ والتجربةِ الذاتية بين الفنان والمتلقي في آنٍ واحد، اذ يحتفي النصُّ البصريُّ الى تراكيبَ وجدانيةٍ تمتلكُ وتفرز دلالاتها الجمالية على السطحِ التصويري بإشارات إيحائيةٍ يُنتجها عدد من الرموز الواقعية بأسلوب حديث مجرد من الزوائد الملتصقة به ليصبح عملاً بسيطاً يسهل قراءته. ينتج الوعي واللاوعي الكثير من خبرة النتاج التشكيلي , وليس بالوعي وحده يتم ذلك. فعلى الفنان ان يفهم تجربته بمصطلحات عقلية ليعبر عن فهمه لما يستعيره من رموز ودلالات. ويعبر في الوقت ذاته عن المشاعر التي يسبغها على الاسلوب. تنفيذ العمل الفني على سطح لوحة او مقروءا كان او مسموعاً، يفترض ان لا يكوّن هناك فجوة او مسافة بين العمل الابداعي وبين ذاته, الا في حدود تداخل معارفه التقنية التي تسهل عليه اخراجها على مقاصده التي احتلت تفكيره وقت التنفيذ. اختلاط عملية الوعي واللاوعي وتشابكها في النتاج الفني ليس بعيدا غالبا عن تأثيرات محيط الفنان وتاريخه الشخصي والعام , وأخلاقية العمل الفني تكمن في انسجام عناصر مولوداته , كي يتجلى القول الذي يشير إلى ان الفن يحمل قيم أخلاقية.

تجربتي كانت منذ نعومة الأظفار اذ كنت في السنين الأولى من حياتي ابحث عن القيم الجمالية في الأشياء وأقوم بتقليدها وإضافة بعض الرتوش التي كنت أراها ناقصة في تلك الأشياء فمفرداتي حسب إدراكي الحسي القليل في فترة الطفولة كانت تلفت الانظار. . بدأت تجربتي الابداعية في الكتابة اولاً حيث كان لي حصالة نقود كما كان لنا جميعاً في فترة الطفولة ولكن كـُنت مختلفاً بعض الشيء اذا كانت حصالتي لا تحتوي على دنانير او دراهم او اوراق نقدية بل كـُنت اجمع فيها قصاصات ورقية تضم قصص قصيرة ففي نهاية كل يوم اضع قصاصة تضم سطور تجربة ذاك اليوم الذي انقضى مع رؤية مستقبلية لما كان يجب ان يكون عليه ذاك اليوم، ثم تطورت العقلية الطفولية ففي مرحلة الصبا بدأت موهبة الرسم تظهر جلية على سلوكي وعلى التأملات الغريبة علي بهذا المستوى العمري فكنت اقوم بالتلصص الى ملامح اقراني لأنقلها على دفتر الرسم وبعدها اضفي عليها بعض التعديلات لإظهار الشخصية التعبيرية التي كنت اراها جلية على وجوههم. . وهذا انسحب ايضاً على الكادر التدريسي في المدرسة الابتدائية حتى اكتشفُ بي هذه الموهبة فأصبحت من رواد المرسم الصغير ومن أصدقاء مجلة الأطفال التي كانت تصدر حينها مجلة مجلتي والمزمار حيث اصبحت صديقاً دائماً في ركن المرسم. . وشيئاً فشيئاً بدأت العائلة بتطوير الموهبة حين حثتني على الاستمرار في مجال تطوير المهارات من خلال ادخالي في الدورات المدرسية التي تختص بالخط والزخرفة الإسلامية و تزامناً مع هذه الدورات كانت لي بعض المداعبات الخفيفة على آلة العود فحصلت على وقت لممارسة العزف على آلة العود هذا كان في مرحلة المتوسطة وبعدها دخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت بتقدير جيد جداً في قسم الخط والزخرفة الإسلامية حتى دخلت قسم الفنون التشكيلية في كلية الفنون الجميلة في الموصل. . وكنت من المتفوقين حتى التخرج سنة 2000.
في لوحتك الخريف قدمت لوحة رمزية تنطوي على الالوان فكيف تصف لنا هذه اللوحة؟ وهل يمكن ان يختلط الارث المحلي وارث الحداثة العالمية في عمل فني واحد؟
إنَّ الخطابَ الفني في لوحة الخريف تعطي مفرداتها وسطوحها مع المُحفِّزات الانسانيةِ بعلاقاتها الخاصةِ والجدليةِ دون التورّط في محاولة تقديم أبعاد توضيحية لإسناد الرؤية وإيصالها، فهي نتيجة تكثيف الرؤى الفلسفيةِ في تفاعلاتِ المفرداتِ على سطح اللوحةِ. فالفن بالنسبة لي يبقى اشتغالا في ميدانِ التساؤلِ وحاجةً إنسانية داخليةً وليست ترفاً جمالياً يتبهرج ويتزين بالألوان انما هو استئثارٌّ بالمعنى عبر طروحاتٍ شكليةٍ استعرضها في مساحاتٍ لونيةٍ ومعمارية. لقد كان هاجسي في إشتغالاتي اللونية الى الوصولَ لتحقيقِ إستثارات وانطباعاتٍ عاطفيةٍ ينقلها الامتاعِ البَصَري الذي تتشكلُ مِنهُ السلعة الفنية انما كنت أذهبُ بمساحاتي الى بُقعٍ ضوئيةٍ تغتسلُ بالصّمتِ ليكتشفَ من خلالِها اغتراب و صَرامةِ هذا العالم الذي تنقّل بين الاوهام والاحلام وأسْيِجَة شاردة من لحظاتِ العَتمَةِ التي كانت تُلاحقني خطواته بكل مكان وبكل وقت. استخدمت الرموز والمساحات اللونية المناسبة للعنوان التي تعطي انطباع للرائي ان يقف امام مشهد غروب في غابة خريفية الموسم تتداخل الالوان البرتقالية والبنية وبشكل تلقائي عفوي كما لو انك تقف على ما نفضته الاشجار من اغصان واوراق شاخت من قسوة الظروف كما هو الحال لدى الجنس البشري فضلا عن المربعات التي بمثابة النوافذ التي يطل منها عمر الانسان الذي يذوب وينصهر في مدخلات الزمن على مدى مسيرة الحياة فمنهم من شاخت ملامحه وهو في ريعان الشباب ومنهم من قضى وهو في سن الشيخوخة، تستفز العناصر المستخدمة في العمل الفني هذا تستفز المتلقي لتجعله أسيرا أمام العمل وتشده ليتسمر أمامه.

هل تعد لوحة كل الارض عراق شكلا اخر من اشكال التعبير التشكيلي الذي يعبر عن مأساة شعب وتدمير وطن؟
هي لوحة ملحمية مليئة بالتميمات التي تجسد مرحلة زمنية من اشد الازمنة التي مرت على العراق حلكة بالظلم والظلام فترة ما بعد الاحتلال اذ يظهر واضحاً الدمار الذي اجتاح ارض العراق التي تعدى الفعل الاجرامي فيها حدود التصور , ولم تعد وسائل التعبير التشكيلية التقليدية كافية للتعبير عنها بما يوازي فضاعة الفعل ذاته. ما وفرته مساحة المعاصرة من اساليب مستحدثة هي جزء من ارث المعاصرة الثقافية , بامكانها ان تدلنا على ما يناسبنا من اساليب التنفيذ التشكيلية التي تُعـِـيننا على انجاز عمل يوازي فداحة هذا الفعل المشين، هذا ينسحب طبعا على أي عمل ثقافي إن كان ادباً شعراً وروايةً وعزفاً واجناساً اخرى تعبيرية هذا ليس بالضرورة ان يكون عملاً على سطح لوحة او بوستراً او ما شابه. فإني ارى ان هناك التباسا واضحا في تفسير ماهية ووظيفة الفعل الفني , وحصر الامر بالمفهوم السوسيولوجي الاجتماعي. مثلما هناك فرز تعسفي بين مناطق الاداء الثقافية ومنها الفنية وكأن الادب.. ادب , والفلسفة. . فلسفة , والفن. . فن. .. جزر عائمة محايدة عصية على الاختراق. متناسين تنافذ اساليب الفن ومناطق اداءه المختلفة العريضة على امتداد التاريخ. فمن يجزم بان التشكيل لم يحاذي الشعر او الموسيقى او الفلسفة او الدراما او الرياضيات , بنسب معينة. ومن يجزم بان المدارس التاريخية , وكلها مُخترعات عصورها لم تضفي طابعها على مجمل النتاج الثقافي , لذلك العصر. . فالأمر منوط لذائقة الفنان ووعيه في العزف على الوتر الذي يمس فكره ووجدانه بما توفره هذه الأساليب من مناطق أدائية شاسعة , إضافة لموروث الحداثة وموروثه الشخصي. اتساع مناطق التعبير أعده عامل مساعد لاكتشافات اوسع واعمق , لا عامل عثرة او عائق او استلاب. فأن العصر عصرنا وعلينا العزف على الوتر الذي يمس شغافنا. فقد جاء هذا العمل محاكيا لأوجاع العراقيين في الداخل والخارج وترجمة لمرحلة تاريخية فيها ما جرى من حيفٍ على الإنسان العراقي وبالأخص الفنان منهم فقد لامس هذا الوجع في جذوره كل إنسان ملتصق بأرضه حتى وان كان العراق عليه بعيداً فقد وصل جذر العراق الى ابعد بقعة على وجه البسيطة فتألم من كان في قارات العالم اجمع فجاء عنوانه كل الأرض عراق .
التصوير الفوتوغرافي من الفنون التي أصبحت تملك العدد الأكبر من المتابعين خصوصا بعد الثورة التكنولوجية الحاصلة في العالم وأصبح المصور فنانا تشكيليا بكل ما في الكلمة من معنى فهل لدى الفنان حكم أي اهتمام في هذا الموضوع؟
اما عن التصوير الفوتوغرافي فلي اهتمام في هذا الاتجاه حيث انه نمط جديد يترجم بعض المفاهيم وخلقها بشكل اخر مما يضفي على اللوحة التصويرية تساؤل وجدلية. اذ يأخذ على عاتقه تحويل مفهوم الجمال الفني لجمال الفكرة أو التعبير عنها حيث تعد الفكرة التي ينضوي عليها الفعل الفني أو يطرحها أكثر أهمية من الموضوع، وأيضاً لمسايرة التطور النوعي التكنولوجي بسبب التأثير الطاغي للاكتشافات العلمية على جميع الجوانب الحياتية ومنها التشكيل، وهنا يأتي تغيير المصطلح من فنون جميلة أو تشكيلية إلى فنون بصرية Visual Arts . وتعود جذور الفن المفاهيمي للحركة الدادائية الجديدة سواء في أوروبا أو أمريكا في مطلع القرن العشرين، ثم تأصل المفهوم في الستينات مرسخة أن الفن يقوم أساسا على ترجمة الفنان فكرته باستخدام أي وسيط يراه مناسبا للتعبير عنها، والحرية في اختيار أي نوع من الخامات التي تخدم الفكرة، من دون التقيد بالأسس الفنية التقليدية والمألوفة، على أساس أن العمل الفني ليس منتجا جماليا، بقدر ما هو منتجاً فكرياً مترجماً تشكيلياً.
